فصل: فَصْل في توصيف الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد لحال الأمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فِي الأَمْر بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنْ المُنْكَر:

اعْلَمْ وفقك الله أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر يجبان وجوب كفائي يخاطب به الجميع، ويسقط بمن يقوم به، وإن كَانَ العَالِم به واحدًا تعين عَلَيْهِ، وإن كَانُوا جماعة لكن لا يحصل المقصود إِلا بِهُمْ جميعًا تعين عَلَيْهمْ.
وأما تعريفهما، فالمعروف اسم جامَعَ لكل مَا عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى النَّاس. والْمُنْكَر ضده وعرفه بَعْضهُمْ بقوله: الْمُنْكَر اسم جامَعَ لكل مَا يكرهه الله وينهى عَنْهُ والمعروف اسم جامَعَ لكل مَا يحبه الله من الإِيمَان والْعَمَل الصالح.
وقَدْ حبب الله إلينا الْخَيْر وأمرنا أن ندعو إليه، وكره إلينا الْمُنْكَر ونهانَا عَنْهُ، وأمرنا بمنع غيرنا منه، كما أمرنا بالتعاون على البر والتقوى.
فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
والأصل فِي وجوبهما: الكتاب والسنة والإجماع قَالَ الله تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وأبان جَلَّ وَعَلا أننا بهما خَيْر الأمم فَقَالَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.
وفي المسند والسُّنَن مِنْ حَدِيثِ عمرو بن مرة عَنْ سالم بن أبي الجعد عَنْ أبي عبيدة بن عَبْد اللهِ بن مسعود عَنْ أبيه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن من كَانَ قبلكم كَانَ إِذَا عمل العامل الخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا فَإِذَا كَانَ الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فَلَمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضرب بقُلُوب بَعْضهُمْ على بعض ثُمَّ لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بما عصوا وكَانُوا يعتدون. والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عَنْ الْمُنْكَر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الْحَقّ أطرا أَوْ ليضربن الله بقُلُوب بعضكم على بعض ثُمَّ ليلعنكم كما لعنهم».
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ إبراهيم بن عمرو الصنعاني: وحى الله إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم. قَالَ: يَا رب هؤلاء الأَشْرَار فما بال الأخيار؟ قَالَ: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكَانُوا يواكلونهم ويشاربونهم.
وذكر أَبُو عُمَر بن عَبْد اللهِ عَنْ أبي عمران قَالَ: بعث لله عَزَّ وَجَلَّ ملكين إلى قرية أن دمراها بمن فيها فوجدوا فيها رجلاً قائمًا يصلي فِي مسجد فقالا: يَا رب إَِنْ فيها عبدك فلانًا يصلي؟ فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: دمراها ودمراه معهم فإنه مَا تمعر وجهه فِيَّ قط.
وذكر الحميدي عَنْ سفيان بن عيينة قَالَ حَدَّثَنِي سفيان بن سعيد عَنْ مسعر أن ملكًا أمر أن يخسف بقرية فَقَالَ: يَا رب إن فيها فلانًا العابد. فأوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إليه أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فِيَّ ساعة قط.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ وهب بن منبه قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة قَالَ يَا رب اغفر لي قَالَ قَدْ غفرت لَكَ وألزمت عارها بَنِي إسرائيل قَالَ: يَا رب كيف وأَنْتَ الحكم العدل لا تظلم أَحَدًا أَنَا اعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري.
فأوحى الله إليه إِنَّكَ لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عَلَيْكَ بالإنكار.
وأوضح سُبْحَانَهُ أن الأجر بهما عَظِيم فِي قوله تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.
ووصف الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَات بأن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر ويقيمون الصَّلاة ويُؤْتُونَ الزَّكَاة وَيُطَيعُونَ اللهَ ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.
وشهد الله بالصلاح للمؤمنين الَّذِينَ أضافوا إلى إيمانهم القيام بهما فَقَالَ تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وبين جل شأنه أن قَوْمًا من بَنِي إسرائيل استحقوا اللعن بتركهما فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
قَالَ القرطبي وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماؤهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك الْمُنْكَر الَّذِي لا ينهى عَنْهُ كمرتكبه. وَذَلِكَ أن الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تترك بين أظهرها عاصيًا ولا معصية، فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسود ولم تسكن حَتَّى تذيقه مَا يستحق على معصيته.
كل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والعصاة والفسقة يرتدعون عِنْدَمَا يرون ردع إخوانهم.. انتهى كلامه.
وَأَهْوَى من الْفِتْيَان كُلَّ مَوفَّقٍ ** لِطَاعَةِ رَبِّ الْخْلِق بَارِي الْبَرِيَّةِ

مُلازِمُ بَيْتِ الله يَتْلُوا كِتَابَهُ ** وَيَكْثِرُ ذِكْرَ الله فِي كُلِّ لَحْظَةِ

وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ حَسْبَ اقْتِدَارِهِ ** وَعَنْ مُنْكَرٍ يَنْهَى بِلُطْفٍ بِدَعْوَتِي

وفي سورة الأعراف يخبرنا جَلَّ وَعَلا عما كَانَ من بَنِي إسرائيل وَمَا نزل بِهُمْ من الْعَذَاب فيَقُولُ: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فأفادت هَذِهِ الآيات أن بَنِي إسرائيل صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد الأسماك يوم السبت المحرم فيه الصيد، وفرقة نهت عَنْ ذَلِكَ واعتزلتهم، وفرقة سكتت فَلَمْ تفعل ولم تنه ولكنها قَالَتْ للمنكرة: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا، أي لم تنهون هؤلاء وَقَدْ علمتم أنهم قَدْ هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة فِي نهيكم إياهم.
قَالَتْ لَهُمْ المنكرة: معذرة إلى ربكم أن فيما أخذ عَلَيْنَا من الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ولعلهم يتقون أي ولعل لهَذَا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إِلَى اللهِ تائبين فَإِذَا تابوا تاب الله عَلَيْهمْ ورحمهم.
فَلَمَّا نسوا مَا ذكروا به، أي فَلَمَّا أبى الفاعلون قبول النَّصِيحَة: أنجينا الَّذِينَ ينهون عَنْ السُّوء وأخذنا الَّذِينَ ظلموا، أي الَّذِينَ ارتكبوا المعصية بعذاب بئيس، فنصت الآيات على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكتت عَنْ الساكتين.
قَالَ ابن عَبَّاس رضي الله عنهما: كَانُوا ثلاثة ثلث نهوا وثلث قَالُوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إِلا الَّذِينَ نهوا وهلك سائرهم. وَهَذَا إسناده جيد عَنْ ابن عَبَّاس.
وفي الْحَدِيث الثابت عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي بَكْرٍ الصديق رصي اله عَنْهُ أَنَّهُ خطب النَّاس على منبر رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أيها النَّاس إنكم تقرءون هَذِهِ الآيَة وتضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن النَّاس إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه». وفي لفظ: «من عنده». رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَقَالَ: حديث حسن صحيح. وابن ماجة والنسائي ولفظه: إني سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن القوم إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه عمهم الله بعقاب».
وفي رواية لأبي داود سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثُمَّ يقدرون على أن يغيروا ثُمَّ لا يغيروا إِلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب». وفي رواية: «إن النَّاس إِذَا رأوا الطالم فَلَمْ يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».
وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد: ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب.
قُلْ لِلَّذِي بِقِرَاعِ السَّيْفِ هَدَّدَنَا ** لا قَامَ قَائِمٌ جَنْبِي حِينَ تَصْرَعُهُ

قَامَ الْحَمَامُ إِلَى الْبَازِي يُهَدِّدُهُ ** وَاسْتَيْقَضَتْ لأُسُودِ أَصْبُعُهُ

ولو شئتَ لقُلْتُ: ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل وأصبحت الدولة لَهُمْ وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون إنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يستهزؤن ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم لما راجت الرذيلة هذا الرواج وَمَا درى هؤلاء أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية لفساد عقولهم وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم.
وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة للإسلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وارشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فُشُوُّ الشر والْمُنْكَر بيننا. اهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
قُمْ يَا مُحَمَّدُ وَاسْتَمِعْ لِي يَا عُمَرْ ** وَاسْتَيْقِظَا فَالدِّينِ يَدْعُو لِلنَّصرْ

وَغَدًا بَنُو الإِسْلامِ فِي زَيْغٍ فَمَا ** يَسْعَوْنَ إِلا لِلْمَلاهِيَ وَالْبَطَرْ

تَرَكُوا هُدَى الدِّينِ الْحَنِيفِ الْمُعْتَبَرْ ** وَاسْتَبْدَلُوا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ

وَنَسُوا أُصُولَ الدِّينِ مِنْ دَهْش وَقَدْ ** أَضْحَى نَصِيرُ الشَّرْعِ فِيهِمْ مُحْتَقَرْ

وَالدِّين يَدْعُوهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ** وَقُلُوبُهُمْ ضَلَّتْ وَقَدْ عَمِيَ الْبَصَرْ

حَتَّى تَشَتَّتْ شَمْلَهُ وَاصْدَّعَتْ ** أَرْكَانُهُ وَأَسَاءَ مَثْوَاهُ الضّررْ

فَإِلَى مَتَى هَذَا السُّكُوتُ وَقَدْ دَنَا ** وَقْتُ الْجِهَادِ وَمَا لَنَا عَنْهُ مَفَرْ

عَارٌ وَأَيْمُ اللهِ أَنْ نَلْهُوَ وَقَدْ ** كَادَتْ معَالِمُ دِينِنَا أَنْ تَنْدَثِرْ

فَكَفَاكُمُوا زَيْغًا وَهَجْرًا فَامْدُدُوا ** أَيْدِي الْخَلاصِ وَأَيِّدُوا الدِّينِ الأَغَرْ

وَذَرُوا جِدَال الْمُلْحِدِينَ فَإِنَّهُمْ ** فَقَدُوا الرَّشَادَ وَكَانَ مَأْوَاهُمْ سَقَرْ

وَتَكَاتَفُوا فِي السَّعْيِ حَوْلَ نَجَاتِهِ ** لا يَثْنِ هِمَّتَكُمْ خُمُولٌ أَوْ ضَجَرْ

فَاللهُ فِي عَوْنِ الْعِبَادِ إِذَا هُمُوا ** نَصَرُوا الْحَنِيفَ وَحَصَّنُوهُ مِنَ الْغَيْرْ

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلزُومِ الطَّرِيق الَّذِي يُقَرِّبنا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاستُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فَصْل في توصيف الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد لحال الأمة:

وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد رَحِمَهُ اللهُ.. وبعد: فلا يخفى مَا أصيب به الإِسْلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن.. وأن الإِسْلام قَدْ أدبر وآذان بالوداع. والنفاق قَدْ أشرف وأقبل باطلاع.. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره. ولم يقوموا بالدعوة إليه بغرس محبته فِي الْقُلُوب.. بذكر مَا تقدم فَإِنَّ الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أَكْثَر من آيات الصوم والحج الَّذِينَ هما ركنان من أركَانَ الإِسْلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به فِي قوله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً}.
تهدمت مبانيه والإئتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه.. فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ.
نرى الأَمْرَ بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر الَّذِي هُوَ ركن من أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء ضعف جانبه وكثر فِي النَّاس وتنوعت مقاصد الخلق وتباينت آرائهم.
فالْمُنْكَر للمنكر فِي هَذِهِ الأزمنة.. يَقُولُ النَّاس فيه مَا أَكْثَر فضوله وَمَا أسفه رأيه وَرُبَّمَا غمزوه بنقص فِي عقله.. ومن سكت وأخلد قيل: مَا أحسن عقله وَمَا أقوى رأيه فِي معاشرته للناس ومخالطته لَهُمْ.
والله قَدْ جعل الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فرقًا بين الْمُؤْمِنِينَ والمنافقين.. فأخص أوصاف الْمُؤْمِنِينَ المميزة لَهُمْ من غيرهم هُوَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ورأس الأَمْر بالمعروف الدعوة إلى الإِسْلام وإرشاد النَّاس إلى مَا خُلِقُوا لَهُ وتبصيرهم بما دل عَلَيْهِ كتاب ربهم وسنة ونبيهم وتحذيرهم من مخالفة ذَلِكَ.
قَالَ الإمام الغزالي فِي قوله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. وصف الله الْمُؤْمِنِينَ بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر والَّذِي هجر الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر خارج عَنْ هؤلاء الْمُؤْمِنِينَ.. انتهى.
وفي قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} مَا يدل على أن الناجي هُوَ الَّذِي ينهى عَنْ السُّوء دون الواقع فيه والمداهن عَلَيْهِ.
والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر هُوَ الأساس الأعظم للدين. والمهم الَّذِي بعث الله لأجله النبيين ولو أهمل لاضمحلت الديانة وفشت الضلالة وعم الفساد وهلك العباد.
إن فِي النهي عَنْ الْمُنْكَر حفاظ الدين وسياج الأداب والكمالات. فَإِذَا أهمل أَوْ تسوهل فيه تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ولا خجل.. ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم ويسعونها بآذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم ثُمَّ يتجرأ الكثيرون أَوْ الأكثر على ارتكابها. ولكن يَا للأسف استولت على الْقُلُوب مداهنة الخلق وانمحت عَنْهَا مُرَاقَبَة الخالق حيث اندرس من هَذَا الْبَاب عمله وعلمه وانمحى معظمه ورسمه واسترسل النَّاس فِي اتباع الأهواء والشهوات.
ولا شك أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر حفظ للشريعة وحماية لأحكامها تدل عَلَيْهِ بعد إجماع الأمة وإرشاد العقول السليمة إليه. الآيات القرآنية وَالأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مثل قوله تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فدلت الآيَة الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حيث لم يشهد لَهُمْ بذَلِكَ إِلا بعد أن أضاف إليها الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فقد ذم سبحانه وتعالى من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وَهَذَا غاية التشديد ونهاية التهديد. فبين سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن السبب للعنهم هُوَ ترك التناهي عَنْ الْمُنْكَر، وبين أن ذَلِكَ بئس الْفِعْل.
ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عَنْهُ فقَدْ أعانه عَلَيْهِ بالتخلية بينه وبين ذَلِكَ الْمُنْكَر وَهُوَ عدم الجد فِي إبعاد أخيه عَنْ ارتكابه.
قَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لعنوا فِي كُلّ لسان على عهد مُوَسى فِي التوراة ولعنوا على عهد داود فِي الزبور. ولعنوا على عهد عيسى فِي الإنجيل. ولعنوا على عهد نبيكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآن: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
قَالَ القرطبي: وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماءهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كما وبخ من سارع فِي الإثُمَّ بقوله:
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك النهي عَنْ الْمُنْكَر كمرتكب الْمُنْكَر أَوْ.. فَإِنَّ الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تطيق أن تَرَى بين أظهرها عاصيًا ولا معصية فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسد ولم تهدأ إِلا إِذَا أذاقت المجرم مَا يليق به وَمَا يستحق عَلَى قَدْرِ جريمته تفعل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والمجرمون إِذَا رأوا ذَلِكَ كفوا عَنْ إجرامهم وبالغوا فِي التستر إِذَا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، فَإِذَا لم تسقهم الأنمة ولم تراع سنن دينها ضعفت غيرتها أَوْ إنعدمت كليًا فِي نفوسها إذ لو شاهدت مَا شاهدت من المعاصي.. إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا يخاف معها العاصي ولا ينزجر عَنْ معصيته. وأما أن يتفق الجميع على الإغماض عَنْ ذَلِكَ العاصي فيفعل مَا يشاء بدون خوف ولا خجل إِذَا يرفع ذووا الإجرام رؤوسهم غير هيابين ولا خجلين من أحد.
ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب. ولو شئت لقُلْتُ ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل. وأصبحت الدولة لَهُمْ. وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون أنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يبتسمون ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية وإستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم. لما راجت الرذيلة فِي هَذَا العصر هَذَا الرواج.
وما درى هؤلاء المرذولون أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية التي لَيْسَتْ دونها همجية لفساد عقولهم وبعدهم عَنْ معرفة أوامر دينهم.
وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة إلى الإِسْلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وإرشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فشو السِّرّ والْمُنْكَر بيننا: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}.
وقَدْ صرح الْعُلَمَاء رحمة الله عَلَيْهمْ بأنه يجب على الإمام أن يولي هَذَا المنصب الجليل والأَمْر الهام الَّذِي هُوَ فِي الحَقِيقَة مقام الرسل. محتسبًا يأمر بالمعروف وينهى عَنْ الْمُنْكَر.. وَيَكُون ذَا رأي وصرامة، وقوة فِي الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة. كما قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فدلت الآيَة الكريمة على أَنَّهُ يجب على الْمُسْلِمِين أن تَقُوم مِنْهُمْ طائفة بوظيفة الدعوة إلى الْخَيْر وتوجيه النَّاس وعظتهم وتذكيرهم إلى مَا فيه صلاحهم واستقامة دينهم وأن يكونوا على المنهج القويم. والصراط المستقيم. والمخاطب بهَذَا كافة الْمُسْلِمِين فهم المكلفون لاسيما الإمام الأعظم وأن يختاروا طائفة مِنْهُمْ تَقُوم بهذه الفريضة الهامة التي هِيَ أحد أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء.
قِفَا نَبْكِ عَلَى رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده. ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على الإِسْلام بما لا حَقِيقَة لَهُ.
لَقَدْ انطمس المعنى وذهب اللب وَمَا بقى إِلا قشور ورسوم واكتفى الكثيرون من الإِسْلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعملوا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ. فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته.
هَذَا وأسأل الله أن يوفق الْمُسْلِمِين وولاة أمورهم لما فيه صلاحهم وصلاح دينهم وأن يجمَعَ كلمتهم على الْحَقّ أَنَّهُ ولي ذَلِكَ والقادر عَلَيْهِ وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسَلِيمًا إلى يوم الدين.